محمد فنائی اشکوری
وُلِد السید محمد باقر الصدر فی العاشر من إسفند ۱۳۱۳ (۱ مارس ۱۹۳۵) في الكاظمية بالعراق. وَضَعَ میلاده في أسرة عُرفت بالعلم والتقوى حجر الأساس لمصیرٍ لم یؤثر فقط في تاریخ العراق، بل في العالم الإسلامي بأكمله. كان والده، السید حیدر الصدر، من علماء الشیعة البارزین، وقد تُوفّي قبل أن یبلغ محمد باقر سن الرشد. لكن هذه الیتامة لم تُطفئ نور مسیره المشرق، ففي ظل رعایة أمٍّ فاضلة وأخٍ عالمٍ هو السید إسماعیل الصدر، نما موهبته الاستثنائیة في العلوم الدینیة منذ طفولته. وفي محیطٍ مشبعٍ بالمعارف القرآنیة والعلوم الإسلامیة، تفوّق في التعلیم بشكلٍ لافت حتى إنه انتقل إلى النجف الأشرف في سن العاشرة لبدء دراسته الحوزویة، وتتلمذ على أیدی عمالقة مثل آية الله السید محسن الحكیم وآية الله السید أبو القاسم الخوئي. أصبح نبوغه مَثلًا یُضرب به بین الخاص والعام. ففي سن الـ۱۲ بلغ مرحلة “السطح” في الفقه والأصول، وفي ربیع شبابه نال درجة الاجتهاد، لِیُسجّل اسمه بین المجتهدین الشاب في تاریخ الشیعة.
لكن الصدر لم یقتصر على الفقه والعلوم النقلیة. بفهمٍ عمیق لاحتیاجات عصره، اتجه إلى الفلسفة والاقتصاد وعلم الاجتماع والعلوم الإنسانیة الحدیثة، ساعيًا لبناء جسر بین التقلید والحداثة. كان كتابه “اقتصادنا” (۱۹۶۱) نموذجًا لامعًا لهذه الرؤیة؛ وهو عملٌ قدّم نقدًا جذریًا للأنظمة الرأسمالیة والاشتراكیة، ووضع أول مخططٍ شامل للاقتصاد الإسلامي، لیصبح مرجعًا للعدالة الاجتماعیة في العالم الإسلامي. وفي كتابه “فلسفتنا” (۱۹۵۹)، تحدّى ببصیرةٍ فذة الفلسفات المادیة، وأعاد تنظیم النظام الفلسفي الإسلامي على أساس العقلانیة والوحي. وفي كتاب “مبانی المنطق الاستقرائي”، أسس منطقًا جدیدًا قائمًا على الاستقراء أثّر في مجالات علمیة متنوعة. وفي الفقه، طرح مفهوم “منطقة الفراغ” لفتح باب المرونة فی التعامل مع القضایا المستحدثة، ورسم في كتاب “الإسلام یقود الحیاة” نموذجًا رائدًا للحكم الإسلامي.
إلى جانب نشاطه العلمي والنضالي، لم یتوقف عن التدریس في الحوزة العلمیة في النجف، وربّى تلامذةً كثیرین منهم الشهید آية الله السید محمد باقر الحكیم، والشهید السید محمد الصدر، وآية الله السید كاظم الحائري، وآية الله السید محمود الهاشمي، وآية الله السید نور الدین الإشكوري، والذین طوّروا أفكاره وحملوا رایته.
لكن نضالاته تجاوزت حدود العلم. ففي عام ۱۹۵۸، بإنشائه “حزب الدعوة الإسلامیة”، وضع حجر الأساس للنضال المنظم ضد نفوذ الشيوعیة والعلمانیة في العراق. وبعد انقلاب حزب البعث عام ۱۹۶۸، اتخذ هذا النضال أبعادًا مأساویة. تعرّض الصدر، المدافع عن حقوق المهمشین والمعارض لاضطهاد الشیعة، للاعتقال والتعذيب والعزلة مراتٍ عدیدة. حتی حظر التدریس ونشر الكتب لم یُسكت صوته. وفي هذا المسیر، وقفت اخته بنت الهدی الصدر، الكاتبة المبدعة والرفیقة الصامدة، معه حتی الاستشهاد. وفي ۱۹ فروردین ۱۳۵۹ (۸ أبريل ۱۹۸۰)، استُشهد هذان البطلان – رمزا الفكر والتقوى والتحرر – تحت تعذيب وحشي من نظام صدام البعثي اللعیث. دُفنت جثتاهما سرًّا، لكن دمائهما روت شجرة الیقظة والمقاومة.
لم تكن شهادة الصدر نهایة، بل بدایة حركةٍ تجاوزت الحدود. ألهمت أفكاره المقاومة في العراق وسائر أرجاء العالم الإسلامي. وثبّتت نظریاته السیاسیة والاجتماعیة أسس الثورة الإسلامیة في إیران. حتی في الحوزات العلمیة، أحدثت مناهجه الجدیدة في الاجتهاد تحولًا جذریًا. والیوم، تُدرس كتبه في المراكز العلمیة، ویستلهمه مُناضلو الحرکات الإسلامیة والمقاومة من العراق ولبنان إلى الیمن وسوریا كرمزٍ للتصدي للظلم والاستبداد.
لم یكن الشهید الصدر مجرد مُجتهدٍ أو مناضل؛ بل كان مُصلحًا أدرك آلام عصره وقدّم إجاباتٍ عمیقة. من البنوك الإسلامیة إلى نقد الفلسفات الإلحادیة، من تربیة النخب إلى قیادة النضالات الشعبیة، جمع كلّ هذا لیُثبت أن الإسلام لیست دینًا منعزلًا، بل مدرسةٌ حیةٌ قادرة على الاستجابة. والیوم، بینما یواجه العالم الإسلامی تحدّیات الهویة والسیاسة، یظلّ التأمل في حیاته الغنیة وإعادة قراءة آثاره مصباحًا ینیر طریق الأجیال الجدیدة. رحمه الله؛ رجلٌ صنع التاریخ بقلمه ودمائه.